إلي رحمة الله 

 

 

4 – الداعية والمناظر الإسلامي الكبير

الشيخ أحمد حسين ديدات الهندي الكجراتي ثم الإفريقي رحمه الله

1336 – 1426هـ = 1918 – 2005م

 

 

 

 

 

     في صباح يوم الاثنين : 8/8/2005م الموافق 3/ رجب بالقياس إلى تقويم العالم العربيّ و 2/رجب بالنسبة إلى التقويم الهندي 1426هـ انتقل إلى رحمة الله تعالى الداعيةُ والمناظر الإسلامي الكبير الشيخ أحمد حسين ديدات الكجراتي الهندي ثم الإفريقي بأحد مُسْتَشْفَيَات مدينة «ديربان» فإفريقيا الجنوبية بعد صراع مع المرض طويل عاش خلاله منذ 1996م (1417هـ) شللاً تامًّا في جميع جسده عدا رأسه ودماغه ، جعله طريحَ الفراش ؛ لكنه ظلّ يواصل الدعوة من خلال ردوده على الأسئلة الكثيرة والرسائل المتتابعة التي كانت تتدفّق عليه يوميًّا من أنحاء العالم ، والتي بلغ متوسطها يوميًّا 500 رسالة .

     كان الشيخ أحمد ديدات هندي الأصل والولادة . وُلِدَ بوطنه بلدة «تركيسر» (Tadkeshwar) بمديرية «سورت» (Surat) بولاية «كجرات» عام 1918م (1336هـ) وهاجر والده السيد حسين رحمه الله إلى إفريقيا الجنوبيّة بعد ولادته بمدة قصيرة . وكان والده خيّاطاً متواضعًا يَعُولُ عائلتَه بما يكسبه من لقمة العيش عن طريقة الخياطة . ومن أجل الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمرّ بها العائلة لم يتمكن الغلام أحمد ديدات من إكمال مشوار دراسته ، واضطرّ أن ينقطع عن الدراسة لدى نهاية السنة الثانية من المرحلة المتوسطة ، ليبحث عن عمل يكسب به ما يساعد به أسرته ، فلجأ إلى حانوت يعمل به لقاء أجر يتقاضاه شهريًّا .

     وقد قَدَّرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أن يصبح هذا الغلامُ العاملُ بدكّانٍ نظيرَ أجر شهريّ ، أكبر وأشهر مناظر ، يُحْدِث دويًّا في ديار الغرب كلّها بحججه القوية ، ودلائله المنطقية ، ومناظراته المشهودة ، التي ذاعت منذ منتصف السبعينيات ، ولازال صداها الواسع يتردّد في الأسماع ، وذكرياتُها العزيزه تَمْثُلُ في الأذهان والقلوب ، حتى اضْطُرَّتِ الكنسيةُ والجامعاتُ الغربيةُ ومراكزُ الدراسات التابعةُ لهما لإحداث جناح خاصّ في مكتباتهما ، مُزَوَّدٍ بجميع التسهيلات المتطورة ، والتجهيزات العصريّة ، لمواجهة أحمد ديدات وكتبه وأبحاثه ، وتناولها بالبحث والدراسة ، محاولةً لاستجلاء الحقيقة وإبطال ما تَرَكَتْه من مفعولٍ يبهر الشبابَ والقطاعَ المُثَقَّفَ في الغرب .

     فكيف كان ذلك ؟ كان الدكّانُ الذي كان يعمل به أحمد ديدات على غلوة من جامعة اللاّهوت الكاثوليكية ؛ فشاء الله الحكيم أن يحصل بين الدارسين بها وأساتذتها وبين أحمد ديدات احتكاك وصدام نظريّ عقديّ ، يجعل من الدكّان جامعة إسلامية كريمة يتخرج فيها ديدات داعيةً إسلاميًّا ومناظرًا بارعًا لايفحم فقط هؤلاء المنتمين إلى الجامعة الكاثوليكية هذه ؛ ولكن يفحم كبارَ الأساقفة وعلماء اللاهوت وسدنة الديانة المسيحية في الغرب ، فتحوّل هذا الفتى أحمد ديدات الذي كان قد ترك دراستَه في وسط الطريق ، عالماً ومفكرًا إسلاميًّا وداعيةً حكيمًا ، مُفْعَمًا بجميع معاني التحدّي والغيرة الإسلاميّة والإصرار على أن يغلب كلّ مناظر باسم المسيحية المشوّهة .

     في الطريق إلى جامعة اللاهوت المذكورة ذهابًا وإيابًا كان الطلاب والأساتذة بها يمرّون بالدكّان فيتعرّضون للمسلم أحمد الغلام بالسخَريّة منه ومن دينه وتعليماته ، ومبادئه وثوابته ، ويناله ودينَه بالاتهام والسباب والإبطال ، ويقولون له : إذا كنتَ مسلمًا حقًّا ، فدينُك باطلٌ ، ومن جاء به باطلٌ ، وكتابُك باطلٌ ، ومصيرُك بالتأكيد إلى النار إذا لم تُقْلِعْ عمّا أنتَ عليه من الدين . ولوكان أحدٌ غيره لحزن عادةً ، وأسلم نفسه للهزيمة الداخلية والانكسار المعنويّ ؛ ولكنّ الله أراد به خيرًا وألهمه الصبرَ والثباتَ على دينه والإصرارَ على الإيمان من جديد بحقيّته ، وألهمه أن ينصرف إلى الدراسة الواسعة العميقة للمسيحية «الحقة» في جانب ودراسة دينه «الباطل» ونبيه «الباطل» وكتابه «الباطل» في جانب آخر ؛ ليطّلع عن قناعة على بطلان الأوّل ودلائله وحقّانية الثاني وبيناته ؛ فاقتطع من راتبه الشهري ما بدأ يشتري به مؤلّفات عديدة تُعَرِّف بالإسلام ، وأخرى عديدة تُطْلِع على حقيقة المسيحية وخرافاتها وأساطيرها وأوهامها ، بما فيها كتاب «إظهارالحق» الكافي الشافي فيما يتعلق بالمسيحية وتلبيساتها للعالم الهندي الكبير مولانا رحمة الله الكيرانوي ثم المكي رحمه الله رحمة واسعة (1233-1308هـ = 1818-1891م) وقد وَجَدَه أحمد ديدات يُفَنِّد جميعَ الأكاذيب والمفتريات التي تلجأ إليها المسيحية ويتمسك بها أبناؤها ، ويجيب إجابة منطقية مبنية على الدلائل القاطعة المساغة لدى جميع العقول السليمة عن جميع التساؤلات والخداعات التي يثيرها أبناء الكنيسة تجاه الإسلام وحقائقه فانصرف إلى دراسة هذا الكتاب خصيصًا ، حتى حفظ محتوياتِه عن آخرها عن ظهر قلب على كونه ضخمًا .

     وعكف ديدات إلى جانب ذلك على دراسة الأناجيل ، واطّلع على تناقضاتها ، وسجّلها ووعــاهــا ، وأَهَّلَ نفسَـــه لملاحقة كل من يتعرّض له في دكّانــــه كالعادة بنقاش لــن يتحمّله ، وبدلائل لن يُفَنِّدها . فتخرّج في دكانه مناظرًا ، وداعيــةً مُحَنَّكاً . وألقــى الله في روعــه أن يقف بعدُ موقف «الهجوم» عليهم ، ولايكتفي بموقف «الدفاع» عن دينه وحقائقــه . وهنا شاء الله أن يتعـــرَّف على فتى اسمــــه غلام حسن فنكا ، فتزامل معه ، فصار عضدًا له في مسيرته الدراسيّة والدعويــــة والدفاعيــــة . وكان الأخير حاصلاً على شهادة الليسانس في القانون ، فكان مؤهلاً للبحث والدراســـــة ، وكان ذا أعمــال ؛ حيث كان يمتلك مصنعًا كبيرًا للأحذية ، فتفرّغ ليكون ساعدَ ديدات الأيمن . وذلك عام 1956م (1375هـ) . وقد جرت خلال ذلك نقاشات ومناظـــرات عديــــدة بين ديدات وبين القساوسة في شتى مدن وقرى إفريقيا الجنوبية . وهذا «التدريب المحليّ» أكسبه ملكـــةً ناضجةً للمناظرة مع القساوسة ورجال الكنيسة على المستوى العالمي ولاسيّما في ديار الغرب المسيحي . فاتّفق هو زميله غلام حسن فنكا على إقــــامــــة «مكتب الدعــوة» في شقة عاديّة في مبنى بمدينة «ديربان» . وكان المكتب منطلقًا لهما إلى القرى والمدن في إفريقيا الجنوبية ، وناظر فيها أحمد ديدات رجالَ المدارس المسيحية وقساوسةَ الكنائس مُطَوِّفا بأرجاء البلاد وأنحائها ، وتمكّن من إحداث هزّات في المجتمع المسيحيّ مسّت معتقداته ومفاهيمه كلّها . واقتنع عدد كبير من المسيحيين بحقيّة الإسلام وبطلان عقائدهم خلال حضورهم مناظراتِـــه أو زيارتهم إيّاه في مكتبه بـ«ديربان» .

     وخلال نشاطاته الدعوية تعرّف – رحمه الله – على رجل صالح آخر، أصبح هو أيضًا من رفيق دربه إلى زميله الأول غلام حسن فنكا ، وهو صالح محمد من مدينة «كيب تاؤن» وكان من كبار رجال المال والأعمال ؛ فقد كانت لديه محلاّت تجاريّة عديدة في المدينة . و «وكيب تاؤن» معروفة بكثافة سكانية للمسلمين ، ويشكل المسيحيون فيها أغلبية منظمة وقوية ، وتتميز المدينة أيضًا بموقعها المهم وأهميتها التجارية والسياسيّة . نظّم رفيقُه الجديد صالح محمد مناظراتٍ له – رحمه الله – مع رجال الدين المسيحي بالمدينة ، وتواصلت مناظراته فيها معهم ، فأصبح ذا حضور شبه دائم بها , وصار يحتلّ مكانة مرموقة بين سكانها ؛ حيث كسب قلوبهم بمناظراته المثمرة ، حتى يقال : إنّها عادت تُعْرَفُ بمدينة أحمد ديدات. ومن المؤسف أن رفيقي دربه : غلام حسن فنكا وصالح محمد كلاهما قد تُوُفِّيَا قبل وفاته بأعوام كثيرة . وافت المنيةُ أولاً الأوّلَ ثم وافتِ الثانيَ .

     وكانت أولُ مناظرة عالمية خرج إليها أحمد ديدات – فخــرج إثـــرها إلى العالميـــة ولم يَعُدْ مناظرًا محليًّا فحسبُ – هي مناظرة قاعة لندن الكبرى المعروفة بـ «البرت هول» (Albert Hall) التي عُقِدَتْ عام 1977م (1397هـ) ,أصبح يُعْرَف إثرها في العالم كله ، وصار يدعو إلى الإسلام في العالم كله متجوِّلاً في قراه ومدنه ، مثبتًا حقية الإسلام ، وبطلانَ غيره من الديانات والدعوات ، وعلى رأسها المسيحيــة المُـــدَعَّم المبشِّــــرون بها بالمال وبكثرة الرجال والتنظيم الدقيق والتخطيط البعيد المدى .

     وكان يرى ديدات حقًّا أن العصر عصر الكتب والكتابات والدعاية والإعلام ؛ فلابدّ من إقامة جهاز ضخم لإعداد وإصدار الكتب والكتيبات العصريّة التي تقنع الغربَ المتكبر الشاعر شعورًا بالغًا باستعلائه ؛ فكان يتمنى قائلاً : «لئن سمحت لي الموارد فسأملأ العالم بالكتيبات الإسلامية ، وخاصة كتب معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزيّة» . وقبل إصابته بالشلل عام 1996م (1416هـ) كان قد تمكّن من توزيع 400 ألف نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية . وكان يتحسّر أن المسلمين لايرتقون لحدّ اليوم إلى مستوى عناية المسيحيين بأناجيلهم ؛ حيث تمكّنوا من ترجمتها إلى 2000 لغة من لغات العالم ، وإصدار هذه التراجم بملايين النسخ وتوزيعها المجاني في كل العالم .

     ولئن كانت وقائع مناظراتها لم تُطْبَع كلها ، وإنما طُبِعَ بعضُها ؛ ولكن مؤلفاته البالغة 20 مؤلفًا طُبِعَت منها الملايينُ التي تمّ توزيعُها مجانًا . وإلى جانب المناظرات والتأليفات ، ألقى – رحمه الله – في أرجاء العالم محاضرات كثيرة موثقة علميًّا وأكاديميًّا، وأحسنت المملكة العربية السعودية – ولها حسنات كثيرة – عندما أكرمته بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1986م (1406هـ) وأَعْطَتْه درجةَ «أستاذ» . وذلك تقديرًا لجهوده وجهاده في سبيل الدعوة الإسلامية بالمستوى العصري اللائق الذي أَثـَّر به في عقلية الغرب وأحدث فيها انقلابًا .

     وقد خلّف ديدات رحمه الله وراءه إلى جانب زوجته الصالحة السيدة «حواء» البالغة من العمر 79 سنة ، ابنين هما : الأستاذ إبراهيم – الابن الأكبر – وهو في 55 من عمره يعمل مهندسًا للكهرباء ، والأستاذ يوسف البالغ من عمره 48 سنة وهو رجلُ أعمال . وقد توفيت له ابنة في 40 من عمرها اسمها «زهراء» . وذلك عام 1993م (1414هـ). وله رحمه الله أشقاء ، هم : عبد الله ديدات البالغ من العمر 60 سنة . التحق بالأزهر الشريف عام 1956م (1375هـ) وتخرّج منه متعرفًا على الحركات الإسلامية في مصر ، فأسس بعد عودته منها إلى إفريقيا الجنوبية «حركة الشباب المسلمين». وثانيهم : قاسم ديدات وهو في 58 من عمره ، ومن رجال الأعمال المعروفين بمدينة «جوهانسبرغ». وثالثهم : عمرديدات وهو في 53 من عمره ، وهو حائزٌ على شهادة الثانوية العامّة ، ويعمل تاجرًا في الماكينات التي يستوردها من الخارج .

     والأسرةُ كلها متدينة تلتزم بالإسلام ، وتتبنّى الدعوة إلى الله بما يمكنها من الوسائل والإمكانيات والفرص .

     جزى الله فقيدَ الدعوة الإسلامية أحمد ديدات عن الإسلام والمسلمين خيرَ ما يجزى عبادَه الصالحين، وأدخله فسيحَ جناته ، وألهم جميعَ ذويه ومحبيه في الدنيا الصبرَ والسلوانَ .

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ = سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.